ام المؤمنين السيده خديجةبنت خويلد
اشتغل سيدنامحمدعند السيدة خديجه فى تاجرته واحست بالحب نحو سيدنا محمدلقد بلت خديجه الدنيا وعرفت من الرجال وتزوجت مرتين باثنين من سادات العرب واشرافهم الاول عتيق بن عائذبن عبدالله المخزومى والثانى ابى هاله هند ابن زرارة التميمى
واستغرقت فى تفكيرها تستعيد صوته الفريد المميز وهو يحدثها عن رحلته ويطالعها مرآه وهو مقبل عليها مل المهابة والجلال
وفجأة ألفت خواطرها تحوم حول الموضع الذى التقت فيه بالشاب الهاشمى فهزها شعور مباغت خفق له قلبها
وانتفضت لا تدرى كيف تواجه دنياها بمثل هذه العاطفة بعد ان نفضت يديها من الرجال او خرجت فى حساب بيئتها من حياة الرجال؟
وكيف تلقى بها قومها وقد ردت عن بابها الخطاب من سادة قريش وسراة مكة؟لقد فكرت فى قومها دون ان تعرف رأى محمد فيها أتراه يستجيب لعاطفة أرملة كهلة فى الآربعين من عمرها وهو الذى انصرف حتى اليوم عن عذارى مكة وزهرات بنى هاشم الناضرات؟ وانتابها ما يشبه الخجل فما هى فى كهولتها بالقياس الى محمد فى شبابه غير خالة أو أم ولو عاشت آمنة بنت وهب لما جاوزت يومئذ سن الأربعين وهى بعد ليست خلية من هموم الأمومة فقد ترك لها زوجها عتيق بن عائذ المخزومى ابنة أدركت سن الزواج وخلف لها زوجها أبو هالة هند بن زرارة التميمى ولدها هندا غلاما لم يشب عن الطوق
وفيما هى فى حيرتها زراتها صديقتها نفيسة بن منية فلم يغب عنها الذى تجد صاحبتها فما زالت بها حتى كشفت لها عن سرها المطوى وهونت نفيسة الآمر عليها فما فى نساء قريش من تفوقها نسبآ وشرفآ و هى بعد ذات غنى وجمال كل قومها حريص على الزواج منها لو يقدر عليه ثم تركتها وقد اعتزمت أمرآ جاءت محمدا فسألته فيم عزوفه عن الدنيا وقضاؤه على شبابه بالحرمان؟ هلا سكن إلى زوج تحنو عليه وتؤنسه وتزيل وحشته؟ فأمسك الشاب دمعة كادت تخونه وهو يذكر ما ذاق من حرمان منذ تركته أمه صبيا فى السادسة من عمره وتكلف الابتسام ليرد على محدثته ما بيدى ما أتزوج به قالت على الفور فإن دعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟ فما مس سؤالها أذنيه حتى أدرك من تعنى تلك خديجة ورب الكعبة ومن سواها تدانيها شرفا وجمالا وكفاءة؟ ألا لو دعته لآجاب ولكن هل تدعوه؟ وانصرفت نفيسة وتركته مشغول البال يرنو فى رقة إلى طيف من خديجة وقد تراءت له فى وحدته طلقة المحيا باشة الآسارير تشع لطفآ وبهاء وحنوا وأشفق من أن تبعد به أمانيه إذ كان يعلم ردها أشراف قريش وأغنياءها فغالب نفسه ليستردها إلى واقعه وانطلق يسعى نحو الكعبة فإذا كاهنة تلقاه فى طريقه فتستوقفه سائلة جئت خاطبآ يا محمد أجاب غير كاذب كلا فتأملته برهة ثم هزت رأسها وهى تقول ولم؟ فوالله ما فى قريش امرأة وإن كانت خديجة لا تراك كفئا لها ثم لم تك إلا فترة قصيرة المدى حتى تلقى دعوة خديجة فسارع إليها ملبيا وفى صحبته عماه أبوطالب وحمزة ابنا عبد المطلب وهناك فى بيتها ألفوا قومها ينتظرون وكل شئ مهيأ لزواج سريع وتكلم أبو طالب أما بعد فإن محمدآ ممن لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به شرفآ ونبلا وفضلا وعقلا وإن كان فى المال قل فإنما المال ظل زائل وعارية مسترجعة وله فى خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك فأثنى عليه عمها عمروبن اسد وانكحها منه على صداق قدره عشرون بكرة ولما انتهى العقد نحرت الذبائح ودقت الدفوف وفتحت دار خديجة للأهل والآصدقاء فإذا بينهم حليمة قد جاءت من بادية بنى سعد لتشهد عرس ولدها الذى أرضعته ثم لتعود فى الغداة ومعها أربعون رأسا من الغنم هبة من العروس الكريمة لتلك التى أرضعت محمدا زوجها الحبيب وتندت عينا محمد وهو يتفقد أمه أمنة فإذا يد لطيفة رفيقة تأسو الجرح القديم فى حنان غامر وإذا به يجد فى خديجة عوضآ جميلا عما قاسه من طويل حرمان واستغرقا فى هناءتهما خمسة عشر عامآ ناعمين بالآلفة والاستقرار وقد أتم الله عليهما نعمته فرزقهما البنين والبنات هم القاسم وعبدالله وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة وأرخى الزمن لهما فى حياتهما تلك الرضية الهادئة أعواما ذات عدد ومتزودا لغد مقبل حافل بالكفاح المضنى والشواغل الجسام وقد ذاقا فى تلك الفترة لوعة الثكل فى الولدين العزيزين فكان للزوجين فى وئامهما وتصبرهما ما أعانهما على تجرع الكأس التى تدور على الناس جميعا فلا يعفى من شربها أحد وما كان ولداهما إلا وديعة ولا بد يوما أن تسترد الودائع
ثم كان الحادث الخطير لا فى حياة هذه الآسرة الوادعة فحسب ولا فى حياة قريش والعرب وحدهم بل فى حياة الإنسانية أجمع لقد تلقى محمد رسالة الوحى فى ليلة القدر واصطفاه الله تعالى خاتما للنبيين عليهم السلام وبعثه فى الناس بشيرآ ونذيرآ وكانت الرسالة إيذانا بحياة جديدة شاقة كادحة وبدءا لعهد ملؤه الاضطهاد والآذى والجهاد ثم النصر ومن هنا كان لنزول الوحى على المصطفى صلى الله عليه وسلم وقع المفاجأة العنيفة التى جاوزت أبعاد التصور كان منذ استقرت به الحياة فى رعاية الزوج الرءوم وأعفته ظروفه المادية من عناء الكفاح اليومى قد أتيح له أن يستجيب لما فى نفسه من نزوع إلى التأمل وميل إلى التفكير المستغرق وهى نزعة ظهرت فيه واضحة منذ الصبا ووجدت فى ساعات فراغه أيام رعيه للغنم مجالا رحبا ثم صرفه عنها كدح العيش لتعود فتظهر من جديد قوية أصلية كأنما هى فطرة فيه وكثيرا ما حامت تأملاته حول الكعبة تلك التى صنعت التاريخ لمكة وتاريخ أسرته بوجه خاص وانبلج له نور الحق فرفض هذه الأصنام التى تكدست فى بيت الله صماء عمياء لا تملك لنفسها نفعا ولا ترد عن نفسها ضرا وأنكر أن تخف أحلام قومه فيتعبدوا لحجارة بالغة الهوان ويقدموا القرابين لأوثان وأصنام صنعوها بأيديهم ثم جعلوا منها آلهة لهم وأربابا وأرهف التأمل حسه فإذا هو يستشف أدق ما فى الكون من أسرار ويلمح وراء جلال الليل ورهبة الصحراء وسنا الضوء وبهاء السماء قوة عظمى خفية تدبر هذا الكون وفق نظام دقيق ونواميس مطردة وما شارف الأربعين حتى كان قد ألف الخلوة فى غار حراء واستطاب رياضته الروحية التى يحس خلالها كأنما يدنو من الحقيقة الكبرى ويستجلى السر الأعظم وما كانت خديجة فى وقار سنها وجلال أمومتها لتضيق بهذه الخلوات التى تبعده عنها أحيانا أو تعكر عليه صفو تأملاته بالمعهود من فضول النساء بل حاولت ما وسعها الجهد ان تحوطه بالرعاية والهدوء ما أقام فى البيت فإذا انطلق إلى غار حراء ظلت عيناها عليه من بعيد وربما أرسلت وراءه من يحرسه ويرعاه فلما نزل عليه الوحى فى ليلة القدر وهو فى غار حراء انطلق يلتمس بيته فى غبش الفجر خائفا شاحبا يرجف فؤاده حتى بلغ حجرة زوجه وذهب عنه الروع فحدثها فى صوت مرتجف عن كل ما كان ونفض لديها مخاوفه قال لقد خشيت على نفسى أتراه يهذى حالما؟ أم به جنة؟ وضمته إلى صدرها وقد أثار مرآه أعمق عواطف الأمومة فى قلبها وهتفت فى ثقة ويقين الله يرعانا يا أبا القاسم أبشر يا بن العم واثبت فوالذى نفس خديجة بيده إنى لأرجو أن تكون نبى هذه الأمة والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق وزايله روعه فما هو بالكاهن ولا به جنة وهذا صوت خديجة العذاب الواثق ينساب مع ضوء الفجر إلى فؤاده فيبث فيه الثقة والأمن والهدوء وأحس الراحة والطمأنينة وهى تقوده فى رفق إلى فراشه فتضعه فيه كما تفعل أم بولدها الغالى ثم تهدهده بصوتها الأليف واستراحت عيناها عليه برهة وهو مستغرق فى نومه الهادئ المطمئن ورفرف عليه قلبها مل الحب والإيمان ثم قامت فتسللت من المخدع على حذر حتى إذا بلغت الباب اندفعت إلى الطريق الخالى تحث خطاها نحو ابن عمها ورقة بن نوفل ومكة ما تزال تنعم بغفوة الصبح والكون يبدأ تفتحه للضوء والحياة وجاءت ورقة فأقعدته الشيخوخة عن النهوض للقائها لكنه ما كاد يصغى إلى ما تتحدث به حتى اهتز منفعلا وتدفقت الحيوية فى بدنه الواهن فانتفض يقول فى حماسة قدوس قدوس والذى نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتنى يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذى كان يأتى موسى وعيسى وإنه لنبى هذه الأمة فقولى له فليثبت ولم تنتظر مزيدا من قوله ولم تستعد كلمة واحدة منه بل أسرعت إلى زوجها الحبيب تعجل إليه بالبشرى ووقفت زوجه المحبة المؤمنة إلى جانبه تنصر وتشد أزره وتعينه على احتمال أقسى ضروب الأذى والاضطهاد سنين عددا فلما قضى على بنى هاشم وعبدالمطلب أن يخرجوا من مكة لائذين بشعب أبى طالب بعد أن أعلنت قريش عليهم حربا مدنية لا ترحم وسجلت مقاطعتها لهم فى صحيفة علقت فى جوف الكعبة ولم تترد خديجة فى الخروج مع زوجها وهكذا تخلت عن دارها الحبيبة مغنى صباها ومجمع هواها ومثابة ذكرياتها وقامت تتبع رجلها ونبيها وقد علت بها السن وناءت بأثقال الشيخوخة وأقامت هنالك فى شعب أبى طالب ثلاث سنين صابرة مع زوجها ومن معه من صحبه وقومه على عنت الحصار المنهك وجبروت الوثنية العاتية العمياء حتى تهاوى الحصار أمام قوة الإيمان الصادق والمجاهدة الباسلة وآن للنبى أن يعود إلى بيته فى جيرة الحرم المكى مع زوجه المؤمنة الصابرة التى بذلت له فى المحنة ما أبقى لها الزمن من طاقة فى عامها الخامس والستين بعد نحو سته أشهر من انهيار الحصار مات العم أبوطالب وقد كان لابن أخيه محمد أبا صديقا وكافلا وحاميا ومانعا له من طواغيت قريش قومه ولم تشهد رضى الله عنها مأتمه كانت فى فراشها تودع الدنيا وزوجها صلى الله عليه وسلم إلى جانبها يرعاها ويؤنس وحشة احتضارها ببشرى ما لها عند الرفيق الأعلى ويتزود منها لفراق لا لقاء بعده فى هذه الدنيا ثم أسلمت الروح بعد ثلاثة أيام بين يدى الزوج الذى تفانت فى حبه منذ لقيته والنبى الذى صدقته وأمنت برسالته من فجر ليلة القدر وجاهدت معه حتى الرمق الأخير من حياتها وكانت له سكنا وأنسا وملاذآ إلى أن رجعت نفسها المطمئنة إلى ربها راضية مرضية ودفنها صلى الله عليه وسلم بالحجون وسمى بعام الحزن وتلفت صلى الله عليه وسلم حوله فإذا الدار من بعدها موحشة خلاء إذا مكة تنبو بعد رحليها فليس له على أرضها مكان هى وحدها التى من الله تعالى عليها بأن ملات حياة الرجل الموعود بالنبوة وأن كانت أول الناس إسلاما كما من بها على رسوله صلى الله عليه وسلم ملاذا ومسكنا ووزيرا كان رسول الله لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها رضى الله عنها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس حتى ماتت رضى الله عنها وتركت الرحلة من بعدها بناتها الأربع مل حياة أبيهن الرسول صلى الله عليه وسلم