من جرائم فرنسا في حق تونس: "عرق البرنوس"...وشهد شاهد من أهلها
vendredi, à 08:10
"إنّي على يقين تام من أنه لو دوّت جبال الحوض المنجمي بدواميسها العميقة والمتعددة في صرخة غضب واحدة لأرتعدت فرائص الجلادين من أصحاب الأسهم وأوساط المال والسلطة". بول فينياي دوكتون
في سنة 1911 صدر عن "مطابع الحرب الإجتماعية" بباريس الطبعة الأولى لكتاب " جرائم الإستعمار الفرنسي في عهد الجمهورية الثالثة عرق البرنوس " للكاتب والنائب الفرنسي بول فينياي دوكتون و بعد قرابة القرن أي في سنة 2001 صدرت منه الطبعة الثانية عن دار"الليالي الحمراء" و مؤخرا صدرت بتونس طبعته باللغة العربية عن المطبعة المغاربية للطباعة و الإشهار،بفضل مجهود التعريب الجبار الذّي قام به الأستاذ الجامعي بكلية منوبة بتونس الأزهر الماجري ،في طبعة أنيقة زينتها صورة لشيخ تونسي مرتديا للبرنوس معطيا ظهره لمجال شاسع أصفر كأنه الصحراء.
يقع الكتاب في 280 صفحة من الحجم المتوسط تتوزع بين فهرس الموضوعات و الملاحق و الكشافات أعدّها المترجم بنفسه لان الكتاب لا يحتوي على فهرس للموضوعات التي بلغت 54 موضوعا بعد حذفنا المقدمة العامة للترجمة التي كتبها المترجم عالجت كلها مظاهــرو صور جرائم الإستعمار الفرنسي في حق شعبنا بتونس منذ الإحتلال إلى حدود سنة 1909 و الكتاب في شكل تقرير عام عنوانه" جرائم الإستعمار الفرنسي في عهد الجمهورية الثالثة" أعده بول فينباي دوكتون بعد زيارة ميدانية لتونس و تحديدا للجنوب التونسي ودامت أربعة عشر شهرا تنفيذا للمهمة التي وقع تكليفه بها من البرلمان الفرنسي للقيام بتحقيق رسمي في الأقطار العربية بشمال إفريقيا و كان التقرير يضم ثلاثة أجزاء كبرى كل جزء مخصص لقطر عربي (تونس، الجزائر، المغرب الأقصى) لم ير منه النور إلا الجزء المخصص لتونس بعنوان" جرائم الإستعمار الفرنسي في عهد الجمهورية الثالثة عرق البرنوس" عثر عليه المترجم صدفة بإحدى مكتبات مدينة المتلوي بالحوض المنجمي أواسط الثمانينات من القرن الماضي " عرق البرنوس" عنوان ذو دلالة و رمزية ممتلأ بالدروس و العبر، فالبرنوس هو لباس تقليدي عرف به أهالي شمال إفريقيا لا يفارقهم أبدا، في قظّ الصيف أو في قرّ الشتاء و هو يرمز للأصالة و البساطة و التواضع ،و العرق هو ضريبة العمل و الجهد و الصراع ،هو سائل من السوائل المكونة للتاريخ إلى جانب الدم و المني : يعصر الإستعمار الفرنسي(المقيم العام والقياد والباش آغوات من جهة و المراقبون المدنيون والمشايخ من جهة أخرى)البرنس و هو على ظهر شعبنا الفقير مستخرجين منه عرقهم و من ثمة دمهم ،يمصونه هؤلاء المجرمون مص دارقولا للدماء رافعين شعار" لقد جعل البرنوس للإعتصار".
إنه نوع آخر من الجريمة ضد الإنسانية جريمة ذات طابع جبائي لا تسقط بالتقادم فبعد التوزيع العادل للجوع و الفقر والقمع بينهم يجبر الأهالي على دفع و الضريبة و هم لا يملكون مصدرا أصلا للدخل فيصرخ بول فينياي في وجه الحكومة الإستعمارية و النواب" كلكم مجرمون وما يقع بتونس وصمة عار على جبين حكومة الجمهورية الثالثة..." .
يسلط الكاتب الضوء على ثلاث قضايا أو موضوعات رئيسية في كتابه إرتقت لمرتبة الجريمة بأتم معنى الكلمة :
قضية الضرائب أو النظام الجبائي ،قضية الخماسة بالأرياف وقضية عمال الحوض المنجمي مقترحا وضع حبال المشانق حول رقاب الجناة مقترفي هذه الجرائم عوضا عن الأوسمة والنياشين التي تزين صدورهم وأكتافهم
يؤكد "دوكتون" في كتابه /التقرير أن النظام الجبائي الذي كان سائدا بتونس إبّان الحقبة الإستعمارية هو من أشد الأنظمة المدمرة لقوى الإنتاج والقوى المنتجة وهو من أشد الأنظمة الجبائية ظلما وجورا لم تعرفه الإنسانية لا في عصور الإنحطاط ولا في المجتمعات الحديثة التي تدعي باطلا إحترامها لحقوق الإنسان ،وأن هذا النظام – يقصد النظام الضريبي – وصمة عار في جبين البايات المجرمين ولا يزال يسئ إلى حكومة الجمهورية الثالثة التي إستمرت في تطبيقه والعمل به على إمتداد ثلاثين سنة من الإحتلال ،لقد كانت الجمهورية الثالثة أشد ظلما وجورا تجاه التونسيين من أسياد القرون الوسطى تجاه أقنانهم .
ويعود جور وظلم النظام الضريبي بتونس إلى درجة إرتقاءه لمرتبة الجريمة إلى:
1/ تعدد الضرائب وتنوعها فهي تنقسم إلى:(ضريبة المجبى،ضريبة القانون التي تهم الزياتين والنخيل ،ضريبة العشر التي تفرض على الحبوب ،ضريبة الزكاة التي تفرض على المواشي ،ضريبة المحصولات ،ضريبة "التفخيض "...)
2/ طرق إستخلاص هذه الضرائب ،حيث يقوم القياد بمساعدة"جيش المخزن" - ويسمى جيش السلطان معدود من الجوائح تماما مثل الجراد والجفاف والوباء – بعملية إستخلاص الضرائب المذكورة في شكل عمليات نهب بالقوة والبطش وإستعمال جميع الأساليب بما فيها إغتصاب النساء والصبايا .
3/ جزاء التخلف عن أداء الضريبة وهو الرمي في سجون موبوؤة مظلمة أبدية ،حضائر تربية الخنازير أفضل منها وهم مقيدين إلى سلاسل تحيط بهم القاذورات من كل جانب على حد وصف الكاتب نفسه.
لقد أبقى الإستعمار الفرنسي على قانون الخمّاسة الذي أصدره الوزير خيرالدين باشا بتاريخ 13 أفريل 1874 وشكّل ذلك إنتهاكا صارخا لحقوق الإنسان وجريمة بشعة من جرائم الإستعمار الفرنسي ولعل من أبشع صوره خضوع زوجة الخمّاس وبناته إلى قانون التخفيض مثلما كان معمولا به في ظل النظام الإقطاعي فتم تعويضه بالمال لفائدة الفلاح الذي أصبح من حقه إقتطاع جزء من مهر بنت الخماس التي ستتزوج لفائدة الفلاح إضافة إلى خضوعهم لأداء الضرائب السابق ذكرها !وكان المعمرين يتصرفون في الضياع التي إستولوا عليها كما يتصرف الروسي مع عماله العبيد من الموجيق .
ولم تكن وضعية عمال الحوض المنجمي أحسن حالا من هؤلاء الخماسة الفقراء المعدمين ،فبعد أن أبرمت السلط الإستعمارية بتاريخ15 أوت 1896 إتفاقية إمتياز إستغلال فسفاط قفصة مع إحدى شركات النهب الكبرى "شركة فسفاط قفصة " بإمتيازات خيالية ( الإعفاء من الضرائب بمختلف أنواعها ، حق التصرف المطلق في مجال يمسح 500.000 هكتار ،حظر العمل النقابي داخل المناجم ،حرية تحديد العلاقة الشغلية مدة وأجرا وإنهاءا ...) حولت هذه الأخيرة الحوض المنجمي إلى "أرخبيل سجني" والعمال إلى "سجناء المنجم" ويجب على الداخلين إلى هذا المعتقل ترك أمالهم وأحلامهم خارج الباب " يا داخل القنارية ما لك ديّة" ولن تتوقف "شركة فسفاط قفصة"عن مصادرة أراضي الأهالي وخاصة قبائل أولاد بويحي من الهمامة وأولاد سيدي عبيد بدعوى البحث عن الفسفاط حسبما خولته لها إتفاقية الإمتياز المشؤومة. وحولت الشركة أبناء تونس إلى أكثر السكان في العالم "إعتصارا جبائيا " ولو طبقت القانون والتراتيب الجاري بها العمل لكان أهالي تونس في غنى عن الديون ولكانوا من أقل الشعوب دفعا للضرائب!إنه الجشع والطمع وسيطرة العقلية الإستعمارية على أولئك المجرمين حولت أصحاب الأرض إلى عبيد إلى حد جعلت مكتشف الحوض المنجمي فيليب توماس يقول قبل وفاته :" لوكنت أعلم أن الأمور ستؤول إلى ما آلت إليه لحملت سري معي إلى القبر"..
لقد إستعان المستعمر الفرنسي في تنفيذ جرائمه النكراء في حق شعبنا بتونس بمؤسستين على غاية من الخطورة وهما مؤسسة القضاء ومؤسسة الصحافة ،فقد كان القضاء على تخلفه وعدم مواكبته للتطورات تابعا بالكامل للإدارة الإستعمارية تنخره الرشوة والمحسوبية والوصولية، بل أنشأ المستعمر "المحكمة المختلطة "لإضفاء الشرعية على عمليات النهب المنظم ومصادرة الأراضي ،أما الصحافة فلم تكن غير أداة تبرير جرائم المستعمر وإيجاد الحجج والبراهين على صحة ما أقدم عليه فتكتب هذه الصحافة :" أن العرب هو الجنس الأكثر فسادا في الأرض ...وعليه فإن الطفل العربي يرث كل أنواع الإنحرافات كالخداع والسرقة والكذب "،ليصل الكاتب في النهاية إلى نتيجة مؤداها أنه لو أخضع الألمان مقاطعتي الألزاس واللوران المحتلتين لنفس النظام التعسفي الذي تطبقه فرنسا بالبلاد التونسية لتحدت لهم كامل أوروبا المتحضرة.
الجزائر لها رجالها ،وسيحصلون على ما يريدون لأنهم أصحاب حق ،أما إذا نفى وجود جرائم أصلا وأن فرنسا كانت بتونس حملا وديعا حاملة لرسالة "حضارية تمدينية" لفائدة شعب تونس فذلك طامة كبرى و قد جارى الاستعمار الفرنسي في خطابه وإستبطن مشروعه ،نعم نقولها بصوت عال: على فرنسا الإعتذار على كل جرائمها في حق شعبنا المتعددة والمختلفة (إغتيال ،تهجير ،مصادرة أراضي ،إغتصاب،حرق،....) والموثقة بالمراجع و لدى أجهزة الدولة الفرنسية ذاتها ودفع تعويضات لأبناء وأحفاد الخمّاسة وعمال الحوض المنجمي وكل من تضرر من جرائمها النكراء
الكاتب خالد الكريشي